ربما تبدو هذه الكلمات للقارئ الكريم، وللوهلة الأولى، غريبة ومتناقضة وهو أمر أعذره فيه طالما لم يقرأ سياقها الذي وردت فيه. إذ انني على قناعة بأن دهشة قارئي ستنجلي مع إطلاله على المشهد كاملاً بزمانه ومكانه وشخوصه. فقد قُدّر لي أن أُمثلَ الأسرى الفلسطينيين في سجن النقب الصحراوي أمام إدارة السجن أثناء وجودي فيه. ونتيجة لهذا الدور الذي أنيط بي وبحكم اتقاني للغة العبرية ومعرفتي بخبايا المجتمع الإسرائيلي المستندة إلى دراستي وتخصصي، فقد أتيح لي أن أخوض سلسلة من اللقاءات والحوارات، التي كانت تتجاوز في كثير من الأحيان الجانب (الوظيفي) إلى الجوانب السياسية والفكرية منها، وهو أمر لم يعتد إسرائيليون كُثر على سماعه بحكم الصور النمطية السائدة لديهم عن الإنسان الفلسطيني وحدود ثقافته وتحضّره.
لنعد الآن إلى عنوان هذه المقالة، إذ مع اقتراب موعد الإفراج عني جلست مع المدير لأنقل المهام للشخص الذي سيخلفني في تمثيل الأسرى، وقبل خروجنا من الجلسة قدّم لي مدير السجن كتاباً عن الإسلام واليهودية وقد خط على غلافه الداخلي بقلمه وبخط يده الكلمات التالية:”إلى الصديق والشريك والعدو”. وقبل أن أتمكن من إبداء ملاحظاتي على ما فعل، بادرني قائلا :” أنت صديق في المستوى الشخصي وشريك في المستوى المهني وعدو في المستوى القومي”. وقد مثلت هذه الكلمات بالنسبة لي الإطار الذي حكم علاقة السجين بسجانه، وهي، بحسب اعتقادي، تحكم اليوم أيضاً، وفي شقها الأخير تحديداً، طبيعة العلاقة القائمة ما بين الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية وما بين سجانيهم الإسرائيليين. إذ لربما تتطور بعض العلاقات الشخصية الهامشية هنا وهناك، ولربما أيضاً ينشا نوع من التفاهم المهني (الوظيفي) الذي تفرضه ظروف السجن وطبيعة الأدوار وإمكانات الأشخاص، بل وأكثر من ذلك ربما يوزع السجانون ابتسامات هنا وهناك ويطلقون شعارات من نوع ” نحن لم نسجنكم إنهم رجال الشاباك” أو “نحن لسنا هنا لعقابكم بل لتسهيل الحياة عليكم”!!!. لكن ومع أول حالة احتقان يعود الأمر، وكما تقول العرب، إلى نصابه ويعود الأسد منيعَ غابه، فتزول الابتسامات وتسقط الشعارات البراقة وتسقط معها كل العلاقات الطارئة، ويعود الأسير الفلسطيني إلى حيث هو ” ثَغرُهُ” مقاتلاً من أجل كرامته وحريته واستقلاله، ويعود السجان الإسرائيلي إلى حيث هو مربعه ومكانه الطبيعي ممثلاً للاحتلال الذي، وكما صادر الأرض واستوطنها يصادر الحرية والكرامة ويقف أمام أية محاولة من طرف الأسرى الفلسطينيين للمطالبة بحقوقهم التي كفلتها الأعراف والقوانين والمواثيق الدولية والإنسانية. فلا انفصام ولا فِكاك ما بين مؤسسات الاحتلال المختلفة، وإن تلبست بلبوس مختلف أو لعبت أدوارا مختلفة. فمصلحة السجون الإسرائيلية هي المسؤولة، وكجزء من مؤسسات الاحتلال القائمة، مسؤولية مباشرة عن الإجحاف الواقع بحق الأسرى الفلسطينيين والعرب في سجون الاحتلال، وعن الانتهاكات الدائمة لحقوقهم وكراماتهم، والهادفة أولاً وأخيراً إلى كسر إرادة هؤلاء الأسرى وثني عزيمتهم وتفريغهم من محتواهم النضالي.
ليس هذا ما يعنيني هنا بالتحديد، فقد باتت هذه حقائق مسلمٌ بها في أوساط الأسرى الفلسطينيين وكل المهتمين والمتابعين لشأنهم، لكني معني بشكل خاص بمجمل موقف الأسرى وطبيعة تعاطيهم مع هذه المعاملة الممنهجة من قبل مصلحة السجون.
التجربة الطويلة الممتدة في معاملة السجان الإسرائيلي أثبتت أن هناك وعياً بطبيعة عقليته وسلوكه، وهي، أي الحركة الأسيرة الفلسطينية، تطور أدوات ووسائل تكفل استمرار صمودها ومجابهتها لهذا التحدي المفروض عليها. لكن هذا الوعي، من وجهة نظري وبحكم التجربة، ما يزال بحاجة إلى مزيد من الدراسة والتمحيص وإعادة المراجعة!. ففي الوقت الذي تقف فيه إدارة السجون في مواجهة الأسرى الفلسطينيين كتلة واحدة متماسكة متسلحة بالقوانين والأنظمة التي تكفل تحقيق غاياتها وأهدافها السالفة الذكر، ما زالت حركتنا الفلسطينية الأسيرة ، وبصراحة متناهية، بحاجة إلى بناء وتعزيز ثقافة “المسؤلية الجماعية” أو ثقافة “المصلحة المشتركة” عل حساب المصلحة الحزبية الضيقة أو المصلحة الشخصية المقيتة. ومع إدراكنا لطبيعة تركيبة الحركة الأسيرة الفلسطينية وحقيقة انتمائها إلى حركات واطر سياسية مختلفة الرؤى والمواقف، ومع تفهمنا للخلفيات الاجتماعية المتباينة للأسرى الفلسطينيين، إلا أن هذا لا يمنع إطلاقا أن تكون رؤية أسرانا مدروسة ومنسجمة ومتوافقة، بعيدة عن الانفعال والإرتجال الذي قد يُفقِدُ قضيتهم الكثير من النقاط ويقدم للطرف الآخر الذرائع لينقض على نضالاتهم وانجازاتهم المُعمدة بالتضحيات وبمعارك الأمعاء الخاوية. وأنا واثق بأن ذاكرة أسرانا تعج بعشرات الأمثلة حول مواقف “مزاجية” من هذا الأسير أو ذاك، والتي كلفت حركتنا الأسيرة وانجازاتها ورصيدها النضالي الشئ الكثير، بل وقفزت بها سنوات ضوئية إلى الوراء، وهو ما اعتادت العرب أن تعبر عنه في أمثالها قائلةً “على أهلها جنت براكش”.
وحتى لا نقع، أو تقع حركتنا الأسيرة فريسة بعض الأهواء الحزبية أو الشخصية، مطلوب منا جميعاً أن نُسقط من قاموسنا مفردات من نوع “أنا” و”لي” و”يخصني” و” موقفي” وبأن نستبدلها بكل ما من شأنه أن يُمتن صفوفنا ويضمن لُحمتنا وتماسكنا. واذكركم جميعاً بقول المهلب بن أبي صفرة :
كونوا جميعاً يا بني إذا اعترى………………………. خطبٌ ولا تتفرقوا آحاداً
تأبى الرماح إذااجتمعن تكسراً……………………… وإذا افترقن تكسرت آحادا
تأبى الرماح إذااجتمعن تكسراً……………………… وإذا افترقن تكسرت آحادا
محمد السواحري