ستون عاما تمرُّ على ضياع كرامتنا في فلسطين، ستون عاما قاسيةٍ كغيمةٍ سوداءَ أمطرتْ حقلنَا فأنبتَ هزائماً وضياعاً وجوعاً وقهراً وشتات ، ستون عاما تمرُّعلى حمْل أُمِنا الكاذبْ وما زلنا حتى بعد علامات وإشارات وحقائق الهزيمة نأملُ أن يكون مولوداً عظيما ، ولكنه حمل تمخَّض عن رحلة ممعنةُ في الهزيمة ،وأحلام وأمنيات شاخت قبل أن تغيب في غيابة جُبِّ القضية .
ستونَ من سنواتِ الانكسار حملْناها على ظُهورنا ، وحين تقوَستْ أورثناها لأبنائنا ليستكملوا مشوارنا مع حلاوةِ الهزيمة ونُعومة النَصْلِ حين يُلامس مواطنَ عفَّتنا ، ستون فقدْنا فيها كلَ شيء وكَسِبْنا الهزيمة ، فقدنا الكرامةَ والسيادةَ والريادةَ ،استَقلْنَا من وجُودَنا ومن وجُوهَنا التي تاهت في المنافي ،بعضنا أشار بإعادة رسم الخريطة ، وصنف ثانٍ طالب باعتقال كتاب الجغرافيا ونسف رأس التاريخ، وثالث تدثر بعباءة صمته فدخل في بيات من سكونٍ لا يُرجى منه صحوٌ ، ورابعٌ وخامسٌ وسادسٌ … أدلجوا في ليلٍ لا أوبةَ منه ، فيا لها من خيبةٍ طويلةٍ أورقتْ دروباً تفضي إلى شتاتٍ دائم ، وهزائمَ رفعْنا لها الرايات وأنشدنا لها أحلى الأناشيد ، وتعالتْ الزغاريد ورقصتْ الغانياتُ على بساطٍ من نثارِ اللحمٍ والدم ، وأحذيتنا المصنوعة في زمن الهزيمة ، داستْ الأحمرَ القاني وسخرت من رسالة يحتضنها، تحملُ في طياتها عبقاً من مِسكِ الشهداء ، وذراتِ ترابٍ من باب الواد، وصرخةً واهنةً من القدس أنْ إخْجَلوا عليَّ ومنْ أنفُسكم ، فديَّان يراودني عن نفسي كلَّ يومٍ ، وأقْصَاكُم تُلَّ من الجبين ، والدمُ الذي يُلامس أقدَامَكم الراقصة يستصرخَكُم أن أودَاجَه المذبوحة يَعبثُ بها صبْيَةُ اسرائيل وبَغايَاها.
ستون عاما من الأحلام المزيفةِ بالبحثِ عن نصرٍ لا شجاعةََ فيه ولا بطولة ، وهلْ يحلمُ الأموات ؟ وكيف ينتصرُ سيف استقال من مضاءه ؟ ستون عاما انتفخْنا فيها وتَورَّدتْ وجْنَاتِنا ،ومن عجزٍ ووهنٍ ترهلْنا وكبُرتْ عجِيزتنا ،واكْتفينا بالتصفيقِ لدمِِ الشهداءِ وألقِِ الشهادة.
الخامس عشر من أيار كانت البدايةُ وكانت النهايةُ ، الشهداء يَحْضُنونَ بنادقَهم المُتواضعة ويبذرون حقولنا بِدمِهم الشريف ، وعيونهُم الرائعةُ تفتِّش في الترابِ عن أي أثرٍ لأفعى صهيون ، وينطلقُ الرصاصُ ويرتفعُ ضجيجُ المدافعِ ، فينغرسون في الأرض كسنديانة عصية على الريح ، تلامس أنوفهم رائحة البرتقال المناضل ، وتُظِلهُم قُبّرةٌ أبتْ الا أنْ تخوض المعركة ، وأنْ لا تمتهنَ الهروب ، ولكن الضعف بابٌ للهزيمةِ ، فتُطيحُ اليدُ القويةُ بالجسد الواهن ، فيتغيرُ لونُ السماء، ويرتحلُ الشهداءُ الى زمَنِهم الجديد ،والبنادقُ المتواضعةُ تأبى الا أن تندسَّ معهم ، تعانقُ دمائهم وتمسحُ عن جبينهم حبات عرقِ اللحظات القاسية.
فلسطين لاتنتظرينا فنحن مجرد حُضور عابر في زمنِك المقدس ،نعم كنا شهودَ يومك الأسود يوم أن شُقَّ عنك ثوبَ الطهارة واعتلاك صهيون الخبيث ، ولكن ماذ فعلنا يا ترى؟ لقد فعلنا ما نُجيده كل يوم ، أصابتنا رِعدةٌ وسالتْ مآقينا بالدموع ، وقليلٌ منا من انتضى كرامته وارتحلَ بدمه اليك ، وعِوضاً – يا فلسطين – من البحث عن مكامن قوتنا استكنَّا الى لذيذ ضعْفِنا ، وانتشينا بالاحتفال بعيدِ نكبتك في كل عام.
فلسطين لا تبحثي عنا ، ولتبحثْ عيونك عن صلاة الأنبياء ودمِ الشهداء ، ونخوة معتصمٍ وصباحاتِ صلاح الدين على أبوابك ، واستصرخيهم فَهُمْ من يحملَ مفتاحَ الزمنِ الآتي ، زمنُ البداياتِ المُضمّخةِ بالكرامةِ ورائحة البرتقال ، زمنُ صلاح الدين وفجرهِ الجديد .