م. زياد صيدم
صاحَبَها النحس منذ أن بدأت في تحسس أنوثتها .. فكلما دق بابها خطيب يطلب يدها ، لا يشرب غير قهوته ولا يعود ثانية ؟ وتظل زجاجة شراب التوت الأحمر، مغلقة لتعاد إلى ذاك الرف في مخزن المطبخ، ليكسوها الغبار من جديد.. وكلما تعرفت على أحدهم سرعان ما تهمد جذوة الشوق بينهما ، فتسرى من تحت أقدامهم كمياه نهر باردة.. وسرعان ما تبتعد تلك القشة الطافية على سطحه بعيدا حتى تتلاشى ، وترسم بتلاشيها ملامح لوحة سريالية عنوانها نهاية حلم! لم تنتظر حنان طول العمر نصيبها المفقود جراء نحس قد تحول إلى كآبة يظللها في نهارها.. و كابوس يسرق نومها الهادئ في ليل ترقب أحيانا كيف يستبدل حلته السوداء بحلة من وهج ونور وضياء.. حتى اقتنعت سريعا بفكرة والدتها بزيارة تلك العرافة، حتى تكشف لها سبب تعثر حظها وسر نحسها الملازم لها، وتوصف لها بلسم الشفاء والخلاص منه ؟ .
وافقت إحدى عماتها والتي تُعرف بجرأتها وشجاعتها لتصطحبها إلى حيث ذاك البيت في أطراف المدينة.. والذي أصبح علما مشهورا تؤمه جموع من البشر في غالبيتهم من النساء، تضرب خمائرهن على وجوه شاحبة مستنفرة .. لا يخلو المشهد بطبيعة الحال من رجال يقفون هناك خلف جدران الكشك على استحياء، تظهر في نظراتهم الشاردة وحركاتهم المتلعثمة والمُحرَجة.. يلتمسون قليل من عصائر باردة تساعدهم على ابتلاع قلقهم من ذاك الكشك الصغير، حيث يتواجد خلفه متسع مفتوح من الأرض، فيه بعض الأشجار وأحواض الزهور والخضرة.. كان قد أعده ونظمه العم صابر بعد اتفاق مسبق مع العرافة، حيث تأخذ نصيبها أيضا من جهد وعرق ذاك العجوز المثابر حيث وافقها شروطها فهو يجرى على دستة من أفواه كالأرانب ….
دخلت العمة حسنيه تُمسك بيد متعثرة الحظ ابنة أخيها حنان ،تقودهما إحدى وصيفات العرافة إلى ممر متعرج يقود إلى مكان جلوس العرافة.. أجلستاهما أمام وعاء مستدير من الفخار السميك ، وقد امتلأ بالفحم وتصاعد منه دخان كثيف من البخور .. وروائح أخرى تزداد كثافتها في الأجواء كلما قامت بنثر ذالك المسحوق طيب الرائحة.. فطلبت كف يدها، فمدت حنان ذراعها المرتجف نحوها فأمسكت بكف يدها اليمين متفرسة تفاصيله من خطوط و تعاريج ثم انتقلت إلى كفها الشمال وبنفس الطريقة .. انتظرت حنان تترقب نبأ لن يحضره هدهد سليمان .. ولكنه سيخرج من فاه تلك العرافة التى لم تكف عن إصدار ترانيمها من تعاويذ و تمتمات لا يُفهم أي من كلماتها.. ثم بدأت تشحط بعض الخطوط بإبهامها على رمل ناعم، وضع في وعاء مستطيل من الطين المجفف والمكسو بقماش مزخرف.. ثم ساد صمت و وجس وترقُب .. عندها تبدل وجه حنان وغاب ورد الخدود الأحمر !.. قطعت العرافة الصمت متجهه بكلامها صوب العمة قائلة: بأن أحد عوازلها من قريباتها تحديدا قد صنعت لها عملا محكما، يُبعد كل طارق بابها إلى غير رجعة، ويهرب كل محب يقترب منها .. قالتها بكل ثقة في رملها وفراستها بقراءة الكف فهي ذات الصيت الشائع بدراية الأمور، وكشف المستور، وبسر باتع لما تقول ،لا يخيب بشهادة جميع نساء القرية وجميع من يقف ببابها من الحضور!! .. ثم قامت بنصحها بأمر تفعله بدقة وترتيب.. وقبل أن يغادرا المكان الذي كادت فيه حنان أن تقع مغشيا عليها لولا صلابة وجسارة عمتها حسنيه .. قامت بإعطائها بعض من أحجبة ولفافات ورقية جميعها بأشكال مثلثيه !!.
لم يمر شهر حتى دق بابها عريس ما لبث أن عاد هذه المرة لتثبيت الخطوبة ، فانسلت حسنيه مسرعة إلى العرافة ، مستبشرة خيرا لما أنجزته من بطلان العمل ومعها من الهدايا من كل صنف ولون، أرسلتها لها حنان عربون شكر وامتنان وعرفان، فحنان اليوم ليس بحنان الأمس فهي تكاد أن تطير كعصفور تحرر من قفصه.. أو كمن تريد أن تقفز في الهواء من شدة سعادتها فقد تحطم أخيرا العمل وفقد السحر مفعوله، وها هي زجاجة شراب التوت تفتح وتدور على الحضور.. على وقع من زغاريد وطبول، وفرحة و سرور.. اتفق الجميع على مراسيم الزواج أن تكون سريعة وعلى نطاق محدود.. وفعلا تم ذلك برضي الطرفان فقد كانا يسابقان الريح !! وتم تحديد نهاية الاسبوع القادم بيوم الزفاف .. وهنا أحست العمة حسنيه بقبضات في قلبها غريبة !! فوضعت يدها على صدرها وغمغمت بكلمات .. فلم يرق لها هذه السرعة العجيبة.. فدخل قلبها وسواس خناس ترك في داخلها شعور بالريبة والحذر وعدم التفاؤل؟..
في ليلة الزفاف وبعد انفضاض المحتفلين، بدأت حنان في تطبيق نصائح العرافة خطوة بخطوة فكان أن تأجج اللقاء بينهما.. فاصطحبها عريسها مسرعا واللهفة في عينيه قد تلاقت مع بريق عينيها المتقدتان.. فتقابلا على ضوء شمعة تنثر رائحتها المعطرة في كل أرجاء غرفة النوم ، فهذا يوم مشهود وموعود….
عندما انطفأت الشمعة على خيوط الفجر الأولى.. و بدأ بلبل البيت داخل قفصه على شرفة العروسان يغرد بألحانه الصباحية .. كانت رجولته قد انسحب منه متراجعة مكسورة الخاطر!!.. تكرر ذلك في كل ليلة على مدار
أكثر من شهرين..!! استسلمت بعدها لقدرها بعد محاولات يائسة ، وخطوات من نصائح العرافة نفذتها بدقة متناهية وتعويذات وأحجبة دون فائدة ودون أي أمل أو رجاء.. فقد تيقنت بان سحرها نابع من قلب أسود لعمل مشعوذ ..
رجعت حنان إلى العرافة تجر خطواتها ثقيلة وحزينة وبعفريت النحس جراء عمل من سحر لا يفارقها و يخيم على رأسها .. لتعلمها العرافة لاحقا بخبر وقع كالصاعقة عليها؟ وليدخلها من جديد في دوامة من الكآبة وتعثر وندب حظها..فقد أعلمتها بأن زوجها معروف لديها جيدا بعجزه الكامل ؟؟ بعد أن اشتكت كل زوجاته الثلاث السابقات.. وأكدن ذلك جميعهن قبل أن يحصلن على حريتهن منه طوعا..
فتلبستها حالة من صمت وذهول، لا تبشر بخير من حتمية قدرها المجهول ؟؟ فخرجت تجر قدميها بعناء ومشقة كبيرتين .. ففكرها وعقلها قد تجمدا عن التركيز.. فلم تتبين طريقها بسهولة فحنان الآن في مهب الريح.. وتحت عمل ساحر مشعوذ، يتجدد بقوة وتصميم فيأبى أن ينكسر !!.
إلى اللقاء