حاورتها: رشا عبدالله سلامة
لم يدر في خلد الطفلة أمينة صخرية ذات العشرة أعوام أن القدر لن يمهلها في ذلك اليوم حتى تتذوق خبز الطابون الذي عادت والدتها تحمله إلى منزلهم الحنون. ولم يخالجها قط أن تلك المرة ستكون الأخيرة التي تترقب فيها عودة والديها من أعمالهما الفلاحية في قريتهم اليافاوية “العباسية”.
لم تمض لحظات على ولوج الأم منزلها حتى هرع أهالي العباسية الجميلة للتدافع هلعين من هجمة العصابات اليهودية على قريتهم. أطلّ والدا أمينة من طرف الباب، فرصدا رعبا لم يعتده أهالي القرية رغم تعاقب الغرباء على فلسطين الحزينة من أتراك وإنجليز. تأبط الوالدان أطفالهما هربا من الرصاص العشوائي الذي ملأ هديره العباسية بعدما كانت الطيور العذبة الألحان تملأ سماءها.
سنوات ستون مضت على ذلك اليوم.. سنوات ستون لم تُنس الحاجة أمينة صخرية صوت عصافير الأمان والجمال على أرض تلك القرية، ولا صوت الرصاص الذي أردى كل المعاني الجميلة صرعى.
بذات النظرات الطفولية المرتعبة في ذلك اليوم، تحدق الحاجة أمينة في فراغ غرفتها مستذكرة رحلة اللجوء المضنية التي ما يزال الفلسطينيون يمشونها بلا توقف حتى اليوم. تقول “ركضنا جميعنا نبكي ونصرخ من الخوف. كنا في أمان الله عايشين. البداية كانت الإنجليز وجرائمهم فينا وبعدها اليهود. غريزة البقاء صارت تمشينا بعد اللي عملوه فينا. قتلوا وطخوا وأجرموا. كنا نركض والرصاص فوق روسنا. توزعنا في قريتين بجانب قريتنا واسمهما قولية والمزيرعة”.
زفرة طويلة تنهدتها بينما تلمست بيدها كف من حولها وكأنما عادت لتلك اللحظات التي تداخل فيها الكابوس بالواقع. أردفت “جلسنا تحت أشجار زيتون قولية حتى الليل. لم يكن معنا شيء. لا طعام ولا ملابس ولا حتى ماء. صرخات الأطفال وبكاؤهم من الجوع والخوف كانت تملأ المكان. كنا ننظر في عيون بعضنا غير مستوعبين ما حدث. ما كنا حتى قادرين أن نبكي. البكاء صار بعد سنوات من النكبة. كان الرعب والصدمة مسيطرين علينا. ما كنا فاهمين شو صار أو إيش مصيرنا”.
تتوقف عن حديثها للحظات، لتهب فيها حرارة الجرح فجأة “برغم كل اللي صار كنا واثقين إنه المسألة مجرد أيام وستنتهي. حتى إنه جيران إلنا تسللوا للقرية مساء اليوم الأول من خروجنا منها وأهلي أرسلوني معهم عشان كنت صغيرة. رحنا نجيب أكل. دخلت على بيت أهلي وصرت ألمّ دجاج حي وكيس طحين وبندورة وهربنا فيهم قبل ما اليهود يعرفوا عنا”.
ثلاثون يوما مرت على الطفلة أمينة وأهالي قريتها المنكوبين في قريتي قولية والمزيرعة ولم يطرأ ولو حتى بريق أمل لقرب العودة إلى العباسية، بل حدث العكس تماما: بعدت المسافة بينهم وبين حبيبتهم أكثر فأكثر.
بصوت يرتجف، كما قلوب أهالي العباسية لحظتها تقول “بعد ثلاثين يوم سمعنا أنه حصلت هدنة بين الفلسطينين واليهود. أبوي كان عسكري ولما سمع الخبر صار يبكي ويصرخ راحت البلاد راحت البلاد. عرف بحكم خبرته أن الهدنة تعني استجماع الطرف القوي مزيدا من القوة. وفعلاً، بعد ما خلصت الهدنة سقطت اللد والرملة وكل القرى اللي حولهم”.
دموع بدأت تذرفها من عينيها بلا توقف. دقائق طوال مرت قبل أن تكمل بصوتها المتقطع “طلعنا من قولية وتوجهنا على قرية دير قديس وجلسنا هناك في مركز أمن. وبعدها طلعنا على قرية بيت ريما تحت الزيتون كمان شهر. بعدها رحنا على مزارع النوباني وبعدها على أريحا وبعدها منا من ما يزال يعيش في مخيمات أريحا ومنا ناس تشتتوا في بلاد الله الواسعة”.
تجهش في بكاء مرير، من بين دموعها تتساءل “رحلة لجوء طولت كثير.. وين العالم يجاوبنا متى رح تنتهي.. متى؟”.
تعاود حديثها المضجر بدماء الاحتلال ودموع اللجوء، بنبرة تنطق بآلام المغدورين جميعا تقول “مين كان يصدق إنه اليهود اللي أحسنالهم وعاملناهم بما يرضي الله يعملوا فينا اللي عملوه؟ إيش شافوا من الفلسطينيين غير كل خير. كانوا عايشين بمستعمراتهم بأمان. بجانبنا كانت مستعمرة (الملبس) وعمر أهل العباسية ما أذوهم أو تعرضولهم بسوء”.
تطرأ على ذهنها بوادر الغدر الكبير الذي كافأ به اليهود أهالي العباسية بينما تضرب يدا بيد، تقول وهي تكفكف دموعها “عشان هيك في سمسار يهودي إجا من مستعمرة (الملبس) وحكى لأبوي اللي كان يربي بقر هولندي بحظيرة البيت بالحرف الواحد وباللهجة الفلسطينية الفلاحية اللي تعلمها من القرى: بنصحك تبيعني البكرات لأنه فلسطين مكبلة على وجع راس كبير”.
تعاود الإجهاش من جديد في دوامة بكاء ممزوجة بشهقات جرح ما يزال في ذروة ألمه. تلتقط أنفاسها بعد دقا
ئق لتضيف “كنا طيبين. ما كنا حتى نفكر ليش بهتموا يعرفوا اسم كل حدا بالقرية. والله كانوا ينادوا علينا يا فلانة بنت فلان أو يا فلانة زوجة فلان. كانوا عارفين كل صغيرة وكبيرة بالقرية. كاينين يخططوا وإحنا ولا فاهمين”.
ئق لتضيف “كنا طيبين. ما كنا حتى نفكر ليش بهتموا يعرفوا اسم كل حدا بالقرية. والله كانوا ينادوا علينا يا فلانة بنت فلان أو يا فلانة زوجة فلان. كانوا عارفين كل صغيرة وكبيرة بالقرية. كاينين يخططوا وإحنا ولا فاهمين”.
بنبرة محملة بكل مرارة الظلم تضيف “الإنجليز هم بداية المأساة. هم اللي لعبوا على وتر الفتنة. أكثر مرة اشتدت بين أهل العباسية واليهود قبل ما يهجّرونا من قريتنا كانت لما الإنجليز جابوا على سوق الحلال ثلاث يهود وتركوهم يعملوا مشاكل بالسوق. تدخل شباب العباسية وقتلوهم عشان يكفّوا أذاهم عن أهل السوق”.
تزيد الحاجة أمينة بينما تستنهض صبرها لاحتمال كل تلك الآلام والشجون، قائلة “كان الإنجليز ليل نهار يسرّبوا لأهالي العباسية أخبار أن اليهود سيحتلوا فلسطين، وبعد ذلك يجلبوهم عنا في السوق. وفي مرة جابوا على سوق يوم السبت اللي بجتمع فيه أهالي 12 قرية مجموعات كبيرة من اليهود بسيارات جيب. وفجأة صاروا يضربوا على اللي في السوق رصاص عشوائي فقتلوا عشر شباب منا”.
نظرات هلع تطل من عينيها من جديد بينما تحكم قبضتها على يمين أختها التي تجلس إلى جوارها. تصيف بينما تعاود البكاء “في جار إلنا انقطعت رجله بسبب لغم رموه اليهود يومها، وما بنسى بعد أسبوع لما أهالي القرية لقوا رجله المقطوعة طايرة من شدة الانفجار على سطح أحد البيوت القريبة من السوق. يومها ما فرّق اليهود إلا الحاج محمود أبو نافز ببارودته اللي كانت الوحيدة المرخصة في العباسية. صار يطلق نار في الهواء حتى خافوا وهربوا”.
بصوت أنهكه ألم الذكريات، تقول “استمرت لعبة الفتنة ستة أشهر حتى انقضوا علينا وطردونا من القرية. وين بدهم يروحوا من ربنا على اللي صار بالفلسطينيين؟ وين بدهم يروحوا من الدم اللي هدروه؟ وين بدهم يروحوا من بكاء النساء والأطفال وجوعهم وعطشهم وخوفهم؟ وين بدهم يروحوا من بكاء الرجال وهم متجمعين تحت الزيتون وبسمعوا كلهم بالراديو عشان حدا يحكيلهم إرجعوا على قراكم اللي طردوكم منها اليهود؟”.
وبعد أن استقر الحال بأسرة الحاجة أمينة صخرية في أريحا، تزوجت بعد سنوات من الفجيعة الكبرى، لتغترب في السعودية سنوات طوال ومن ثم في الأردن مع عائلتها اللاجئة حتى الآن.
يطل صوت الحاجة أمينة من وسط لجة آلام صامتة تقبض عليها كما الجمر. تقول “اليهود دمروا العباسية. عملوا فيها شوارع جديدة وبنوا مكان بيوتنا عمارات وإسكانات. برغم إني متذكرة كل شبر فيها بس لما قدرت أزورها في عام 1984 ما عرفت فيها إشي. رحت مكان بيوت أهلي وجيراني ما لقيتها. كنت كل ما أمشي يصدم عيني مبنى إسمنتي. حتى بيارات البرتقال والزيتون والعنب والتين كنت أشمها وأنا بمشي بالعباسية بس ما ألقاها. سوق زقاق الرمل اللي كانت فيه ذكريات طفولة لا تنسى دخلته ولقيت فيه بدل أمي وجاراتها وأبوي ورجال القرية لقيت فيه يهود ببيعوا وبشتروا كأنه مُلك إلهم”.
لم تطل لحظات استحضار العذاب تلك حتى انفجرت باكية من جديد، أنهت حديث الشجون قائلة “كمشت من تراب الأرض وجبت لأولادي لما قدرت أزورها هذيك السنة. ترابها اللي لو دمروا اليهود كل إشي عليه ما بقدروا ينسوني إنه تراب العباسية اللي لعبت فيه وأنا طفلة، التراب اللي ما بقدروا ينكروا إنه أجدادي وأبوي هم اللي سقوه وزرعوه ومشوا عليه ورووه بدمهم لما اغتصبوه منا