د.خضر محجز
في الماضي كنا في غزة نعيش علاقات، من الممكن تسميتها بأنها علاقات المدينة،
د.خضر محجز
في الماضي كنا في غزة نعيش علاقات، من الممكن تسميتها بأنها علاقات المدينة، التي ينقسم أهلها إلى طبقات وفئات اجتماعية، تتوزع بينهم علاقات العمل، وفق نمط مديني. ورغم عدم وجود أصحاب مصانع مستغِلين وعمال مستغَلين ـ كما تشترط الماركسية لقبول تصنيف مجتمع ما بأنه مديني ـ إلا أنه كان قد توفر لنا دائماً سائقون وركاب، وبائعون وشارون، وأهم من ذلك؛ موظفون يقبضون، وعاطلون مقبوضة أرواحهم من ذلك.
كانت العلاقة بسيطة وغير مركبة، باستثناء أن سائقي سيارات الأجرة كانوا طبقة محترفة، ولا تعرّف الناس إلا باعتبارهم مجرد شواكل تمشي على الطريق: حيث يحصي السائق المشاة على الطريق بصفتهم هذه، فلا يميز بين رجل وامرأة، إلا كما يميز ما بينك وبين كيس البضاعة الذي تحمله: فكما أن كلاً من الرجل والمرأة نفر وله أجر معلوم، فإن الكيس مثلك تماماً: نفر وله أجر معلوم.
إذن فقد كانت العلاقة بين السائقين والمواطنين هي علاقة التشيؤ، التي أطنب المرحوم “جورج لوكاش” في سرد تفاصيلها، قبل حصار غزة، وربما قبل احتلالها. ولمن لا يعرف التشيؤ أقول، بأن الإنسان المعاصر اخترع المنتجات المادية، لتشتغل لديه، ولتسهل عليه حياته: فالبنك مثلاً كان مخترعاً إنسانياً، لتسهيل عملية الاقتراض، تيسيراً للتطور المادي. ولكن اكتشاف الإنسان من بعدُ أن البنك صار هو السيد، أشعره بأنه قد غدا مجرد شيء في لعبة المال هذه.
قلنا بأن العلاقة بيننا وبين السائقين في غزة، كانت إلى ما قبل الحصار، علاقة تشيؤ، من الطرفين: فالسائق شيء يحمل المواطن إلى عمله، والمواطن شيكل أو مجموعة شواكل، مهمة السائق أن يجمعها عن الطريق ـ ونحن هنا نستذكر كيف جاءت السلطة بطبقة من العقداء يشغلون سائقيهم (الذين كانوا من قبل مناضلين) لدى زوجاتهم في البيت، مجرد مقمعي بامية، أو موصلين إلى نوادي الترفيه.
أما الآن، وبعد الحصار (وانهيار طبقة العقداء وسائقيهم، وزوجاتهم اللاتي يتكلمن اللهجة السورية بطريقة مضحكة) فإن العلاقة، بين المواطنين والسائقين، قد انقلبت بطريقة غير متوقعة؛ وأصبح من الممكن تسميتها بأنها علاقة ذات طبيعة سردية: سردية من النوع ذي النهاية المفتوحة/ Open end: حيث تتوفر كل من العقدة والحبكة، ولا يتوفر الحل.
السائقون تغيروا. والعلاقات تغيرت. حتى أعمار سائقي اليوم صارت أصغر، وبعد أن كانوا في السابق يحلقون شعورهم نمرة4، ولا يشتغل مذياع سياراتهم إلا على نشرة الأخبار؛ صاروا اليوم يدهنون شعورهم بالجل، ويفرقونها على جنب، ثم يفتحون المسجلات على أغاني هيفاء وهبي وروبي ونانسي عجرم. ألم نقل أن الحال لم يعد غير الحال؟.
لكن كيفية تعاملهم مع الحصار، هي التي نحاول أن نلقي عليها الضوء في هذه السطور.
بالطبع يعلم الجميع اليوم ما تعانيه غزة من حصارٍ، يمنع المحروقات من الدخول. لكن ما ليس طبيعياً هو تعامل السائقين الجدد مع هذا الحصار!. حيث استبدلوا البنزين بالغاز، والسولار بزيت الطعام المستخدَم!. ولا أعرف كيف أمكن أن يكون في غزة زيت مستخدم، فلقد علمت منذ زمن بعيد، أن زيت الطعام يظل صالحاً للاستخدام حتى يتلاشى!.
بالطبع يعلم الجميع اليوم ما تعانيه غزة من حصارٍ، يمنع المحروقات من الدخول. لكن ما ليس طبيعياً هو تعامل السائقين الجدد مع هذا الحصار!. حيث استبدلوا البنزين بالغاز، والسولار بزيت الطعام المستخدَم!. ولا أعرف كيف أمكن أن يكون في غزة زيت مستخدم، فلقد علمت منذ زمن بعيد، أن زيت الطعام يظل صالحاً للاستخدام حتى يتلاشى!.
ما علينا. المهم أن هناك إلى الآن مازالت في غزة سيارات تعمل على الخط، رغم أنف الحصار. والمهم أنها صارت تتعامل مع المواطنين بحقد، يشبه حقد السيارات الممتلئة خزاناتها بالوقود دائماً، والعائدة ملكيتها (صورياً) للمواطنين، ويركبها أعضاء مجلس تشريعي ـ ضحكوا على ذقوننا بالآيات، ثم ركبوا السيارات، ونسوا الآيات، وعام الرمادة، وبطن عمر بن الخطاب التي ظلت تقرقر حتى انتهت المجاعة ـ والمهم أن هؤلاء السائقين الجدد اكتشفوا فجأة فضيلة الأخذ بالثأر.
نسينا أن نقول بأن هذه الطبقة الجديدة من سواقي الجل وهيفاء وروبي، كانوا قد بدأوا ـ قبيل الحصار ـ ينافسون الطبقة القديمة من السائقين الذين يحلقون رؤوسهم نمرة4. فبسببٍ من قلة الأخلاق وانعدام فرص العمل، صار سائقو الجل وهيفاء وروبي يرهقون الراكبين المفترضين من المشاة بالنفير المزعج، تنبيهاً إلى وجود سيارات تمشي على الطريق، وتحتاج إلى راكبين يدفعون الشواكل (ويخففون عن سائقي الجل وهيفاء وروبي من مغبة البطالة، التي اجتهدت الفصائل في فرضها، لكي تنفرد بهذا الشعب المسكين، فتشغله لديها “طخيخاً”، يطلق النار على أبناء وطنه، مقابل كوبونة) ومع ذلك فقد ظل الركاب المفترضون، في السابق، لا يلتفتون إلى هذه التنبيهات الملحاحة، مفضلين في الغالب الركوب مع السائقين الذين يحلقون رءوسهم نمرة4، أو قطع المائة متر المتبقية على أقدامهم، في أحيان أخرى.
يرجع مرجوعنا للحصار، حيث أصبح ل
دينا الآن في غزة، سائقون “موتورون” ويدهنون شعورهم بالجل ولا يسمعون إلا هيفاء وروبي ونانسي عجرم (ولو ظل “الفور كاتس” أحياء لما أمكن أن يتقدم عليهم أحد) ثم يكتشفون “فضيلة” الأخذ بالثأر: الثأر من مواطنين كانوا، إلى عهد قريب، يرفضون أن يركبوا إلا مع السائقين الذين يحلقون رؤوسهم نمرة4!.
دينا الآن في غزة، سائقون “موتورون” ويدهنون شعورهم بالجل ولا يسمعون إلا هيفاء وروبي ونانسي عجرم (ولو ظل “الفور كاتس” أحياء لما أمكن أن يتقدم عليهم أحد) ثم يكتشفون “فضيلة” الأخذ بالثأر: الثأر من مواطنين كانوا، إلى عهد قريب، يرفضون أن يركبوا إلا مع السائقين الذين يحلقون رؤوسهم نمرة4!.
فماذا فعل الآن في الحصار سائقو الجل وهيفاء وروبي؟. (وكيف يأخذون بثأرهم ممن تركهم يجرون وراءه، وركب مع سائقين يحلقون رؤوسهم نمره4؟) صاروا يركبون سياراتهم، ثم يمرون من أمامك محدقين في وجهك، بحثاً عن نظرةِ مسكنةٍ متلهفةٍ، وبمجرد أن يروا في وجهك بارقة فرح؛ وتوقع وقوف السيارة، يخففون السرعة ويقتربون منك ـ فتبدأ بحمد الله، وتأخذ في تصور أن الفرج قريب، وأن من الممكن التعايش مع الحصارـ وبمجرد أن ترفع يديك كلتيهما زيادةً في تأكيد الحاجة؛ يسارعون بالمغادرة وقد علت وجوهَهم ابتسامةُ شماتةٍ تقول: “شريك الخرا، اخسرْ وخسّره”. وبالفعل تظل واقفاً على الطريق، باعتبارك شريكَ خراءٍ، يستحقُ أن يمضي إلى دوامه مشياً. وأنا شخصياً كنت قد ذهبت إلى عملي أمس مشياً، وأوشكت من شدة الإرهاق أن أنام في القاعة، وأترك الطلاب يغشون في الامتحان، لولا بقية إيمان ورثتها عن أبي، رحمه الله.
في غزة، كثيرا ما نرى اليوم مشاة لاهثين، وسيارات فارغة! ـ لا تسل عمن تبقى لهم من الوسائل ما يسمح لهم باصطياد لترات بنزين أو زيت طعام، ثم صاروا يكثرون هذه الأيام من الخروج، للتنزه أمام أعين الماشين ـ الشوارع فارغة، وهؤلاء يتنزهون!. وكلٌّ يغني على ليلاه!.
لكن الداهية الدهياء ليست في هذا فحسب، بل في وجود سائقين من نوع فريد: سائقي جل وهيفاء وروبي، لا يحملون في سياراتهم العمومية إلا “البنات الجميلات”!. أي والله، هكذا هو الأمر الآن في غزة!.
في الماضي كنت ترى سائقاً يتوقف منتظراً الركاب، فتسأله عما إذا كان ذاهباً إلى “جباليا” مثلاً؟. فينظر إليك من طرف خفي، ولا يعقّب. ثم يأخذ في البحث بين الركاب. وبمجرد أن يرى بعض الفتيات (شرط أن يكن جميلات) ينادي عليهن: “جباليا”؟. فيركبن. وتبقى واقفاً تسب أبا من منحه الرخصة ـ مساكين هؤلاء الذين يمتحنون السائقين ويمنحونهم الرخص ـ وتسب الشرطة، وتسب السلطة، وتتمنى أن يجعلك الله حاكماً على هذا الشعب، ولو ليوم واحد، لكي تعلمه كيف يكون النظام (ولو استجاب الله دعاءك وحولك حاكماً، أو رئيساً مؤقتاً، لانشغلت عن رياستك بتجارة الجوالات المهربة) ثم تأخذ في تصور حدوث خيالاتٍ، تنفس بها عن نفسك، مقسماً بالله العلي العظيم ـ على طريقة المشايخ، فالناس على دين ملوكهم ـ بأن يكون السائقون هم أول من تحاسبهم!.
إذن، فللسائقين مع الركاب قصة، لا تجد لها نهاية. ولو دعونا الله أن يفرج هذا الكرب، وأن يدخل الوقود، فسوف نعود إلى البداية من جديد: سوف يعود السائقون يجرون وراءنا لنركب، تحت طائلة نفير سياراتهم. وسوف نتكلف الكثير من الكبرياء، لنمنع أنفسنا من الاستجابة لإغراءاتهم بالرد. وسوف يزداد حقد السائقين علينا، ويتمنون من الله أن يرجع الحصار. وأخيراً، سوف نحمد الله كثيراً، ونقنع من القضية بدخول البنزين.
وأخيراً. هل تعلمون من هو شرٌ من ذلك مثوبةً عند الله؟. من لعنه الله، وجعل منهم أساتذة ودكاترة جامعات، يأخذون حصص الوقود غير المستحقة، ويبيعونها للمحاصرين بأضعاف أثمانها… ثم لا يخجلون من رفع عقيرتهم بالطلب من المواطنين أن يصمدوا. والمواطنون الصامدون لا يجدون ما يطبخون عليه قوت يومهم.