علي الصراف
القول إن الجزائر كسبت استقلالها، أمر يحتمل النقاش.
القول إن الجزائر كسبت استقلالها، أمر يحتمل النقاش هناك دَيْن ما يزال لم يُدفع لضحايا ذلك الإستقلال. والأحرار الحقيقيون لا ينسون او يتجاهلون ديونهم، ولا يتركونها تذهب مع الريح.
لقد دفع الجزائريون نحو مليون ونصف مليون ضحية من اجل الحرية. بعض هؤلاء سقطوا في القتال، وكانوا شهداء في معركة اختاروا بأنفسهم أن يقدموا دماءهم فيها فداء لوطنهم.
ولهؤلاء دَيْن، وأحرار الجزائر يدفعون هذا الدَيْن ببناء وطنهم، وتعزيز مناعته واستقراره ورفاهيته. وبرغم كل ما يحتمل من عثرات وأخطاء ونواقص، فان أبطال التحرير الذين قادوا معترك النضال من اجل بناء سلطة الإستقلال، من أحمد بن بله الى عبد العزيز بوتفليقة، فعلوا كل ما يستطيعون من أجل سداد هذا الدين، كلٌ حسب مقدرته وقناعاته، وكلٌ حسب ما كانت تحيط به الظروف والإمكانيات.
إلا أن هناك دَيْنا آخر لم يتم تسديده بعد. هو دَيْن مئات الآلاف من الضحايا الأبرياء الذين قتلوا وتعرضوا لأبشع أعمال التعذيب والوحشية، من دون أن يختاروا القتال.
دماء هؤلاء الضحايا يجب ألا تذهب هدرا. وكل قطرة منها ما تزال تطالب الأحرار، إذا كانوا أحرارا فعلا، بأن يسددوا الدَيْن الذي في رقابهم عنها.
ضحايا مجزرة 8 مايو-أيار 1945 ليسوا سوى نموذج واحد لأولئك الذين سقطوا بسبب الوحشية الفرنسية. وهناك غيرهم الكثير.
في ذلك اليوم، وعلى الرغم من ان الوطنيين الجزائريين كانوا يحتفلون بالإنتصار على النازية (وهو أمر كان يجب أن يُسعد الفرنسيين، لو لم يكونوا هم أنفسهم نازيين)، وعلى الرغم من ان المتظاهرين في ولاية سطيف رددوا هتافات تقول “يحيا انتصار الحلفاء” إلا أنهم تعرضوا لأبشع حملات القتل لمجرد انهم رفعوا علم الجزائر، ولمجرد أنهم رددوا هتاف “تحيا الجزائر مستقلة”.
وقاد الجنرال دوفال، بأوامر مباشرة من شارل ديغول، حملة قمع خلفت 45 ألف قتيل، ضمن أعمال القصف للقرى، وإحراق المنازل، فضلا عن سلسلة من الإعدامات طالت 99 مواطنا.
هذه الجريمة وحدها تكفي لإعتبار ديغول واحدا من أبشع مجرمي الحرب الذين عرفهم التاريخ. وبدلا من الاحتفال به كـ”بطل قومي” فقد كان يجب على الفرنسيين، لو كانوا يمتلكون القليل من الضمير، وما يزال من الواجب عليهم، أن يحاكموه كمجرم حرب.
جرائم الحرب لا تسقط بالتقادم. وهي لا تتحول الى “بطولات” إلا في نظر مجتمع من دون حس ولا ضمير. ومهما بدا هذا المجتمع “مثقفا”، أو زعم لنفسه ذلك، فالحقيقة هي ان ثقافته ستظل منحطة، طالما بقيت ملوثة بدماء الأبرياء.
بكل وقاحة، تقول فرنسا اليوم انها لا تريد أن تنكر ماضيها، ولكنها ترفض الاعتذار عما ارتكبته في ذلك الماضي من جرائم.
وكل ما تريد فرنسا أن تفعله هو ان تمسح طاولة الدماء… مجانا.
واليوم، يقف على رأس فرنسا رئيس يهودي. وهو أكثر صهيونية من أرييل شارون، ويرغب بألا يكون أقل “بطولات” (فاشية) من شارل ديغول. وذلك شيء حسنٌ بالنسبة لنا. الثأر للضحايا، العين بالعين والسن بالسن، هو أحد أهم قواعد التوراة، التي يجب أن يقبل الرئيس نيكولا ساركوزي لنا الأخذ بها.
الجزائر ما تزال بحاجة الى أن تأخذ بثأر ما لا يقل عن مليون ضحية قتلوا من دون أن يختاروا الموت، وأصبحوا شهداء فقط لأن مجرمي الحرب الفرنسيين كانوا يريدون القيام بأعمال قتل جماعية ضدهم.
وأحد أوجه “الثأر” الأكثر تحضرا وإيجابية، بالنسبة لشعب حر حقا، هو الحصول على الإعتذار والتعويضات لذوي الضحايا ولوطنهم.
الفرنسيون أنفسهم هم الذين يجب أن يدفعوا في هذا الإتجاه. وذلك دفاعا عن حقهم في الوقوف أمام التاريخ كشعب حر ومتحضر.
ولكنهم عندما يفعلون العكس، فانهم لا يثبتون، للتاريخ ولنا، سوى شيء واحد هو انهم Les Boeuf (على حد تعبير ديغول نفسه) و”ثقافتهم” ليست سوى مزاعم وهمية لأناس منافقين.
وطالما لم يسدد أحرار الجزائر دَيْن تلك الدماء البريئة، فان حريتهم ستظل ناقصة واستقلالهم لم يتم.