جلست أفكر طويلاً ماذا سأكتب عن ذكري النكسة وماذا سأضيف أكثر مما كُتب عنها سابقا ، وعن ما كتبوا ممن سبقونا ، فهم لم يتركوا شيئاً إلا وكتبوا به وطرقوا أبوابه ، تناولوا كل شيء عن هذه الذكري التي تهل وتطل علينا بوجهها الأسود القبيح مع فجر الرابع عشر من حزيران كل عام ولا جديد يحدث سوي مزيداً من الانكسارات ، لم تمر ذكرى واحدة إلا وتوابع زلزال النكسة يُدلي بدلوه ، ويقحمنا في مآسيه ، ويُعمق من آلامنا وجراحنا ، فماذا سأكتب عن هذا اليوم الأسود أكثر مما كُتب؟!
وأنا أبحث عن عنوان يناسب هذه الذكري فكرت عميقاً حتى اهتديت لهذا العنوان
” ستون عام وعام ” وهو يوحى لنكسة يتبعها نكسة كل عام ، نكسة يمر عليها الآن ستون عام ولم يحدث أي تغيير فعلي وواقعي على الأرض سوي حدث واحد تزامن مع الذكري التاسعة والخمسون للنكسة ، أي قبل عام من الآن ، وهو ما قامت به حركة حماس فى قطاع غزة العام المنصرم وكأن الأقدار ساقته ليتزامن مع ذكري النكسة الكبرى ، وهنا هل كان ما قامت به حماس مصادفة مع هذه الذكري أم كان مخطط ومبرمج ؟! الإجابة على هذا السؤال لا توجد سوي عند من خطط ونفذ هذا الفعل الذي يطلق عليه انقلاب عند من يرفضونه ، أو حسم عند من يوافقون عليه ، وسواء انقلاب أو حسم فلن تتغير نتائجه ولن تتغير ذكري وتاريخ النكسة لأنها حدثُ تاريخي يعيش معنا ويمضي مع سنوات عمرنا ونستذكره كل عام ونقف على أطلاله نغنى لحن العودة ، واقتلاع أوتاد خيمة اللجوء ، وشد الرحال للديار التي اقتلعنا منها ولا زالت تداعبنا ، ترونها قريبة أقول لكم بل بعيدة وبعيدة جداً.
بُعدها ليس نابع من افتقاد الأمل من حتمية الانتصار ، أو الإيمان بالعودة وإنما من بُعد إيماننا بفلسطين الكل ، وخضوعنا للغة التكتيك الذي أصبح استراتيجي ، وبدأ يُختزل رويداً رويداًً حتى أصبح مطلب يُستجدي استجداء .
وأعود من حيث بدأت لذكري النكسة التي تمر هذا العام وقضيتنا الوطنية (الفلسطينية) أصبحت عارية لا غطاء وأمل ورجاء بإعادة البوصلة لاتجاهها الصحيح من خلال تجاوز حالة الخلاف والانقسام والعودة إلي التوحد خلف الهدف العام ، والاتفاق على ملامح المرحلة ، وصياغة متطلباتها ومطالبنا الوطنية والاتفاق عليها ، ومواجهة عدونا بها ، سواء اتفقنا على برنامج حماس أم على برنامج فتح فكلاهما من وجهة نظري لا يختلفان عن بعضهما البعض سوي بحدود الصياغات اللغوية ، ففتح نادت بدولة ضمن حدود 1967م وبدأت تجزأ هذا المطلب على مراحل بدأتها بغزة أريحا أولاً ، وطورتها لأوسلو ولا زالت تبحث عن كيان ودولة مستقلة وعاصمتها القدس في الوقت الذي أعلنت فيه حركة حماس أيضا موافقتها على دولة ضمن حدود 1967م وهو ما جاء استجابة لمتطلبات حماس الحزب الحاكم وليس حماس المقاومة التي صاغت ميثاقها بدولة من النهر إلي البحر ، كما هو حال حركة فتح قبل أن تصبح حركة حزب حاكم وهو حال كل أحزابنا .
إذن فما وجه الخلاف ؟!
القضية الأخرى التي تُجسد على الأرض هي استرضاء كل طرف لإسرائيل من خلال سياسة العرض والطلب فسلطة وحكومة الضفة الغربية (رام الله) تُلح بطلب الهدنة مع إسرائيل لتتمكن من تنفيذ مشروعها السياسي التي أعلنت عنه سابقاً ، ورغم ذلك فالبسطار الإسرائيلي لا يترك فرصة دون أن يدوس قري ومدن الضفة الغربية ليدنسها ، وما ينطبق على حكومة الضفة الغربية ينطبق على حكومة غزة تطلب هدنة مع إسرائيل ورغم ذلك فطائراتها وبساطير جندها لا تفوت فرصة اغتيال أو اجتياح إلا وتمارسها في غزة الرازحة تحت حصار مُشدد براً وبحراً ، ولولا الأنفاق التي استطاعت كسر الحصار جزئياً من خلال تهريب وإمداد غزة بالسلع والاحتياجات المطلوبة وإلا كانت الأحوال غير الأحوال .
فما وجه الخلاف ؟!
أما فيما يتعلق بعملية الوفاق الوطني فمن يعيش الواقع فعلياً ويشاهد تلاحق الأحداث يُدرك سبب قولي أراها بعيدة ، فإن كانت حكومة الرئيس عباس (فياض) تمارس سلطتها وعملها وصلاحياتها دون أن تتأثر بأي انقسامات ، فإن ما ينطبق عليها ينطبق على حكومة حماس (هنية ) هي الأخرى لا تتأثر بحالة الانقسام وتمارس عملها وصلاحياتها وسلطتها بل وتزيد يوماً تلو الأخر من ترسيخ وجودها سواء من عمليات التوظيف أو تشكيل الأجهزة الأمنية والشرطية أو إعادة صياغة الوزارات وتوسيع دائرة الوزراء ، وسن القوانين والتشريعات … الخ فإنها لا تفكر أو تعطي مجال للقارئ أن يتفاءل خيراً بعملية وفاق قريبة .
حتى الأنظمة العربية صاحبة مبادرات الوفاق تُدرك أن ما تقوم به ما هو سوي لذر الرماد بالعيون ، وإسقاط واجب ليس إلا ، هذا الإدراك يتأتي من إدراكها بأن هذا الانقسام يصاحبه انقسام في مواقف هذه الأنظمة التي يدعم كل طرف منها أحد أوجه الخلاف الفلسطيني – الفلسطيني ، وعليه لا وفاق فلسطيني قبل أن يتحقق وفاق عربي – عربي على ضرورة إنهاء الخلاف والانقسام الفلسطيني – الفلسطيني .
إذن فما وجه الخلاف ؟!
ربما الأمور تُقرأ فى ذكري النكسة أو هزيمة حزيران قِراءة مغايرة لقراءة قبل عام ، حيث كانت قراءتنا تتم من كتاب واحد وهو جدلية الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي وأدوات هذا الصراع ، أما منذ عام أصبحنا نقرأ من كتابين أحدهما يتعلق بالصراع الفلسطيني – الإسرائيلي وجدلية حلوله ، والآخر كتاب جدلية الصراع الفلسطيني – الفلسطيني وكيفية إنهاءه . وهنا يتمحور في ذهني سؤال متشعب ألا وهو ماذا سيفعل حكام فلسطين في غزة ورام الله إذ ما أعلنت إسرائيل موافقتها على دولة فلسطينية ضمن حدود 1967م ؟ ومن سيحمل شرعيته التي يجد بها جواز المرور للتحدث مع إسرائيل ومفاوضتها ؟ وعن أي بقعة سيتم التفاوض مع الطرف الشرعي الممثل غزة أم الضفة الغربية ؟ وماذا سيفعل لو رفض الطرف الشرعي الأخر لما يتوصل إليه المفاوض الفلسطيني الذي يفاوض ؟
أسئلة ساذجة وبسيطة نوعاً ما ولكنها مستنبطة من وحى الواقع المعاش ، والحالة القائمة ، وإفرازات توابع ذكري الرابع عشر من حزيران التي نمارس طقوسها الخاصة بانتظار لحظة اقتلاع أوتاد خيمة اللجوء ، وانتزاع الهزيمة من رحم التاريخ والعودة للديار .
ستون عام وعام تمر علينا ولا زال الفلسطيني مميزاً بكل شيء ، مميزاً بأدواته النضالية والكفاحية ، والسياسية ، وبصموده وتحديه وعنفوانه ، بكل ممارساته وأفعاله ، يُقدم للتاريخ فصول ونماذج مُستحدثة دوما ، وأخر ما قدمه من تميز وإبداع مجلس التوكيلات ، أي مجلس تشريعي ينعقد ويقر قوانينه بالتوكيلات ، إبداع فلسطيني متميز يفتح لنا نوافذ أخرى من نوافذ النكسة التي لم تفتح من قبل ، ويُدون تميز قانوني من عملية استنباط الحلول وإباحة المحظورات ، فلا محظورات فى عالم الأحياء ، فاختيار الممثل للشعب يخضع لعملية توكيل ، ومجلس تشريعي يُعقد بالتوكيل .
بكل الحالات التوكيلات قائمة وانعقد مجلس التوكيلات الفلسطيني عدة جلسات وأقر عدة قوانين تنتظر إبصار النور بعد ما يتم موافقة إسرائيل عليها كما نصت اتفاقيات أوسلو التي توجب وتجبر الطرف الفلسطيني بضرورة موافقة إسرائيل على أي قرار يتم إقراره من المجلس التشريعي بموجب إعلان المبادئ الموقع بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل برعاية الولايات المتحدة الأمريكية ، وهنا لدي سؤال آخر ماذا لو اعتقلت إسرائيل جميع نواب المجلس التشريعي ولم يتبق سوي نائب أو نائبان فهل سيعقد أيضا مجلس التوكيلات ؟!
إذن فما وجه الاختلاف ؟!
تساءل واحد تعمدت قاصداً وضعه بعد كل فقرة من فقرات النكسة وتوابعها حتى يقف القارئ أمامه ويفكر ملياً وبعمق على ماذا يختلف الطرفان ؟! وأين أوجه الاختلاف ؟! إذن فمن استعراض المواقف والممارسات والسياسات فهما متفقان على كل شيء ولا يختلفان إلا بالصياغات اللغوية فما الداعي لشلال الدماء والانقسام غذ كانت طاولة المفاوضات مُعدة ومرتبة ومزتانة بالملفات المتوافق عليها ، أم الخلاف على من يجلس على هذه الطاولة كطرف مقابل لإسرائيل ؟!
ستون عام وعام والنكسة تلقي بتوابعها علي قضيتنا ، فغزة اليوم تعيش الحصار والانكسار معاً ، والضفة الغربية يبتلعها الجدار الفاصل والمستوطنات ، والقدس تُهود ولم يعدل لها معالم عربية أو فلسطينية ، والقضية الفلسطينية فقدت بريقها الذي جذب إليها كل أحرار العالم وثواره ، وجعلها قُبلة لهم ، والأخوة في فتح وحماس لا زالا يبحثان عن وفاق ……
ستون عام من النكسة تمر علينا وعام من الوكسة يخرج لسانه ويقول لن يمر عام دون هزيمة وانكسار … ستون عام وعام والشعب الفلسطيني يبحث عن الأحلام ، يراوده الأمل بالانتصار ..
سامي الأخرس
2/5/2008