محمد عبد المجيد
كل الذين يحبونني قاموا بتحذيري، فالمشهد أكثر وضوحا من أنياب أي سجّان عربي، والايقاع بي على الهواء مباشرة وأمام الملايين
محمد عبد المجيد
كل الذين يحبونني قاموا بتحذيري، فالمشهد أكثر وضوحا من أنياب أي سجّان عربي، والايقاع بي على الهواء مباشرة وأمام الملايين أمر في غاية الأهمية للذئاب التي تنهش في لحم المواطن العربي.
لكنني لم أستجب، وظننت أن ثلاثين عاما من عمر مناهضتي العلنية لأنظمة البؤس والفساد والطغيان كانت كافية لجعل لساني ينطلق في الشاشة الصغيرة، وتغضب معه الجماهير.
بكيت عدة مرات وأنا أقرأ، وأكتب، وأعدّ وثائق تدين كلاب البشر التي تفترسنا، لكن المسرحية كانت مُعَدّة بحِرَفيّة شديدة بدت فيها مهارة معظم أجهزة الاستخبارات مشتركة بنسب متفاوتة.
قيل لي في مطار الدوحة بأن الدكتور فيصل القاسم ينتظرك على أحرّ من الجمر، وقيل لي بأنهم لن يبُلغوا الضيف الآخر، مساعد وزير الداخلية المصري بشخصيتي قبل مساء الاثنين، ولكن هذا لم يكن صحيحا.
في غرفة الانتظار وقبل وصول اللواء مجدي البسيوني كنت فعلا قد وقعت في المصيدة قبل الخروج على الهواء.
انتحى بي المذيع الأكثر شهرة في عالم الإعلام وطلب مني أن أهاجم منذ اللحظة الأولى، وأنه يتعاطف معي من أجل الأبرياء الذين أهينت آدميتهم على أيدي الجلاوزة والسفاحين، وسيعطيني الكلمة، وسيمنحني الوقت، وسأقرأ أسماء المعتقلات والسجون وطرق وأساليب التعذيب، وسيسمع مني الملايين حكايات موثّقة عن منهجية التعذيب وأنها توجيهات دولة ورغبة سلطة.
وطلب أيضا التركيز على المعتقلات السورية، وتعجبت كثيرا فهو سوري لا يقترب قليلا أو كثيرا من عش الدبابير في دمشق، لكنني كنت قد انتهيت باعطاء التحليل العقلي عطلة صغيرة رغم أن الدلائل كلها تشير بمؤامرة محبوكة.
لم تكن تلك المرّة التى التي يطلبني فيها ( الاتجاه المعاكس )، وكنا نختلف فلا يقومون بدعوتي، وفي احدى المرات اختلفنا فقد تم الطلب مني أن أتحدث عن التآمر العربي ، خاصة من الكويت، واستوعبت آنئذ التحذير الذاتي من المصيدة فقد كان المطلوب رأس الكويت، لكن بصمات أكثر وزراء الداخلية العرب كانت هذه المرة تعتمد الحلقة، وتعد آلات الجلد على الهواء مباشرة، وفيصل القاسم يقوم بدوره الذي سيجعل اسمه خالدا ومرسوما على سياط الجلادين في التاريخ العربي المعاصر.
جاء اللواء مجدي البسيوني، وأعطى فيصل القاسم كيسا صغيرا فيه بعض الأدوية التي طلب منه شراءها من القاهرة قبل الوصول.
لم أكن مضطربا بالمرة في غرفة الاستقبال، فلقد ذاكرت كثيرا، وعملت مذيعا لأربع سنوات، وألقيت مرة كلمة في بغداد أمام مئات من قياديي الفكر في العالم العربي عن السلطة والصحافة، وقيل لي آنئذ بأنها أخطر كلمة استمع إليها الرئيس العراقي السابق صدام حسين، وجعلتني لا أسافر إلى العراق بعدها أبدا.
قبل بدء البرنامج بدا لي الدكتور فيصل القاسم كأنه سيفتح لي الشاشة الصغيرة على مصراعيها، ويمنحني الفرصة، ويزيل أي وقفات غير متوقعة يتردد أمامها لساني لثانية أو أقل.
في مثل هذا الوقت، أي في 26 ابريل 2005 كان فيصل القاسم يعتذر عن استضافتي في برنامجه وكان عن العصيان المدني في مصر بعدما تم الاستعداد الكامل له، وقال لي بعدها بأن أوامر وصلته فجأة من كبير الكبار أن لا يثير حاكم مصر فهو خط أحمر لا يقترب منه أحد.
الرابع من مايو يقترب، وإسراء عبد الفتاح تعلمت الدرس، ومناهضو الطاغية منهم من حكم القضاء العسكري عليه، ومنهم من تم التنكيل به في الشارع، ومنهم من ينتظر …
أجهزة الأمن في العالم تنتظر هي أيضا بصبر نافد جلدي وتحجيمي وتقزيمي في خمس وخمسين دقيقة على مشهد من الملايين، أما الاتفاق مع الضيف الآخر فلم يكن له أن يظهر إلا بعد بدء البرنامج. كان الرجل هادئا ويبدو كأنه لا يستطيع أن يؤذي عصفورا، وما عليه إلا أن ينفي وجود التعذيب، والمعتقلات، ومركز النديم لتأهيل ضحايا التعذيب، وعلى فيصل القاسم أن يقوم بالمهمة كاملة.
قال لي قبلها بأنه رفض مئات العروض لمكالمات هاتفية مباشرة، لكن شخصا واحدا فقط سيتحدث، وتعجبت، وسألني عقلني إن كان المتحدث سيشير فقط إلى الكويت حتى أخوض أنا أيضا في هذا الموضوع، ولكنني كنت قد سقطت تماما في المصيدة، وأحاطت بي حسن النية كأنني لم أختبر الحياة من قبل، وأنا الذي أعيش في خطر، ولا أستطيع أن أسافر إلى ثلثي العالم العربي، وروحي أحملها أينما حللت.
سيعاتبني أحبابي ويسألون بدهشة: ما الذي ألجمك وقد بدأتَ بداية موفّقة، وكنتَ مستعدا، وأمامك ما لو أشرت إلى بعضه لأهتزت الملايين بكاء؟
تحوّل فيصل القاسم في دقائق قليلة إلى الجانب الآخر، واستبدل دكتور جيكل ومستر هايد مكانيهما، ووجدت نفسي أمام ضابطي شرطة وليس ضابطا واحدا.
كان فيصل القاسم قد استخرج شراسة لم أتبينها من قبل، وأعطاني ظهره، ومنح أذنيه للآخر، ولم أعد قادرا على تكملة جملة واحدة، وتهكم على ما أمامي، فالبرنامج ليس حوارا ولكنه صياح، والذي يديره لا مانع لديه أن يحوله إلى سلخانة شرطة، فالأسياد ينتظرون على الباب، و( الاتجاه المعاكس ) يمكن أن يراه كل السجناء في أقبية السجون العربية ، وربما بطلب مباشر من سجّانيهم.
كيف وقعت في المصيدة؟
كان هذا السؤال مطروحا من الذين يعرفون قدرتي على التعبير، وسهولة استدعاء الكلمات، وعدم رهبتي من الميكرفون، وكَمّ المعلومات المخلوطة بقناعة عقلية ووجدانية بالقضية التي أدافع فيها عن المساكين والمظلومين.
فيصل القاسم يتعجل نهاية البرنامج، ليرفع يَدَ السجّان في نهاية المباراة ويعلن فوز السجن وحبل المشنقة وكلاب الافتراس ورغبات الطغاة.
يأخذ نهاية الكلمة من أي جملة أبدأ بها ثم يجعلها موضع سخرية، فأي شخص وفقا لرأيه يستطيع ان يقول في الشارع أن السجون مليئة بالمعتقلين.
تحوّل الحَمَل الوديع قبل البرنامج إلى ذئب مفترس، وأخلف فيصل القاسم تعهده معي، وجعل يعطي أذنيه لضابط امن يحدثه عن أنواع المجرمين في السجون.
لم يبلغوا اللواء مجدي البسيوني أن الحلقة عن العالم العربي فقد جاء باتفاق مسبق بينهم وبين أجهزة القمع في مصر، وفيصل القاسم يطلب مني أن أتحدث عن السجون السورية، فإذا تم تقزيمي فقد رضوا عنه في دمشق، وفتحت له أجهزة الاستخبارات القاعة الذهبية لكبار الزوار.
حتى الأطفال الصغار الذين شاهدوا البرنامج فهموا على قدر عقولهم أنني أمام مذيع غير مهذّب على الاطلاق، ومحترف شتائم مبطنة، ومهيّجا للجماهير، وسوطا للاستبداد يجلد به على العلن من يناهض الطغاة.
نجح السجّانان نجاحا باهرا، وأعلن القاسم في نهاية البرنامج على غير العادة طوال سنوات بأن مبعوث الطاغية كسب كل الجولات، وكاد يرفع علامة النصر ويبصق في وجوه كل أحبابي والمتعاطفين والمؤمنين باخلاص وعودي تجاه السجناء والمغيبّين في عالم النسيان .. جحيم السلطات العربية.
أحاول أن أجلد ذاتي منذ مساء الثلاثاء الأسود،وأحلل كل كلمة، وأعود بأثر رجعي إلى بداية المؤامرة، ويا لغبائي فقد كانت كل الطرق تشير بوضوح إلى المسرحية، وأن فيصل القاسم لعب أهم أدواره على الشاشة في أقل من ساعة.
ماذا حدث لي؟
أين ذهب لساني وغضبي؟
لماذا لم أغادر الاستديو، أو أطلب منه أن يسمعني ولا يقاطعني؟
كان شرسا، وفظا غليظا بعد البرنامج، وخرجت منه كمية هائلة من الكراهية، واتهمني في تكملة مسرحيته بأنني قمت بتخريب برنامجه، وطلب مني، كأن الطلب ليس بلسانه، أن لا أقبل دعوة أيّ فضائية عربية للحديث.
انكشفت الأنياب، وقام بتهنئة اللواء مجدي البسيوني أمامي في الغرفة التي شهدته قبل ساعة ملاكا طيبا ووديعا، وباكيا على سجناء الضمير، وقال له: لقد كنت رائعا سواء اختلفت معك أمْ اتفقت.
لماذا لم أعلن على ملايين المشاهدين أنني وقعت في المصيدة، وأنْسَحب حفاظا على صورتي في أذهان الذين دافعت عن حرياتهم لأكثر من ثلاثة عقود؟
كان المطلوب أن لا تهتز صورتي أمام الناس فقط ولكن أمام نفسي وقناعاتي ونداءاتي المتكررة للعصيان المدني والانتفاضة ضد الطغاة،
طلب مني قبلها أن لا أكون مثل الدكتور منصف المرزوقي ، قلت له ولكنه رجل رائع وأعرفه شخصيا، وشاهدته بطلا في مؤتمر ( الكراهية )، ولم أعرض الأمر على عقلي الذي كان غائبا آنئذ في رحلة الفرح بأنني سأعرض هموم وأوجاع وعذابات المواطن العربي الذي تعتبره السلطة ممن يمشي على بطنه أو على أربع.
أعيد المشهد في ذهني فلا أرى نفسي فيه، وأعيده على ملايين المشاهدين فيرون صديقهم ممزقا على الهواء، وضابطا الشرطة، ممثل السلطة في مصر، وممثل الطغاة في الجزيرة، يضحكان حتى الثمالة، فقد نجحت المسرحية أكثر مما نجحوا في 18 يوما مع إسراء عبد الفتاح.
لكنني عاهدت نفسي أمام الله أن أقف مرة ثانية وعاشرة ولآخر رمق في عمري فأنا صاحب قضية وهم أصحاب السلطة، وسنرى من الذي يضحك في النهاية، ومن الذي ستعرف الجماهير بحدسها أنه الأقرب إليها.
أعتذر لكل الذين صدمهم ثلاثائي الأسود، وكانوا يتوقعون مني خيرا وصياحا وزعيقا ومقاطعة المتحدث الآخر لأشرح وأعرض عذابات وأوجاع ودموع السجناء وأهلهم في أقل من عشرين دقيقة هي عمر لساني خلال الدقائق المحسوبة متقاسمة معنا نحن الثلاثة.
هل أجلد نفسي أكثر من هذا، أم أستمر في جلدهم؟
هل يحتفلون بخسارتي وانكساري وهزيمتي وموتي، أم أقف من جديد فالجولة النهائية لم تحسم بعد؟
لم يجبرونني على الوقوع في المصيدة، لكنني ذهبت إليها بنفسي، وضربت بعُرض الحائط كل خبراتي السابقة، وأنحيت التحليل العقلاني والمنطقي جانبا، وغضضت الطرف عما كتبه الآخرون عن ( الاتجاه المعاكس)، ولكن الأحرار لم يصفقوا لفيصل القاسم وضيفه ضابط الأمن والسجان، إنما أحزنهم مَنْ لعب الدور الذي لعبته أنا دون أن أسأل عن مخرج المسرحية !
هي الضربة القاضية كما يظنون، وهو الدرس الأغلى سعرا في حياتي كما أراه.
مرة أخرى، أقدم اعتذاري الصادق والعميق لكل أحبابي والمؤمنين بقلمي، فقد خذلتهم، فجلدت نفسي بعدها بما فيه الكفاية.
إنهم يعلنون وفاتي، وأنا أعلن مولدي الجديد.
محمد عبد المجيد
رئيس تحرير طائر الشمال
أوسلو النرويج