ميساء البشيتي
رسائل من تحت الحصار
لا رسائل أيضا ً اليوم ، مضت أيام وأيام لم
تصلني منك رسالة ، حصار من السماء ، حصار من الأرض وحصار القلب أقسى من أي حصار .
ليلة الأمس جلست وحيدا ً أسامر الشمعة ، استرسلت العبرات على وجنتي كما استرسلت عبراتها الذابلة ، أخذت أقرأ لها رسائلك السابقة وأتصفح معها ألبوم الذكريات.
تذكرت أيامي الأولى معك حين أخذت أناجي الشمعة وأبثها قلقي ليلة جافاني النوم ودب في َّ وخز الأرق فجلست بقربها أشكو لها حالي وأسألها : هل ستحبني ؟ وإن بحت لها بمكنون صدري ودفء مشاعري هل ستقبلني ؟
هي امرأة حزينة وقلبها موصد منذ زمن بعيد ، وأنا في كل يوم يزداد خوفي وتتسع لدي رقعة الأرق ، لم تجبني الشمعة يومها ولكننا تبادلنا ذرف الدموع .
بث الفجر خيوطه الأولى وكنت ِ لي .. فرحتِ أنت ِ بهذا الحب ولكنك كنت ِ متخوفة وكثيرة الشكوك وكلما حاولت ُ تبديد هذه الشكوك ليعود الصفاء إلى سمائك وأنعم معك بلحظات الحب كنت تتقلبين كأوراق أيلول الخضراء المائلة إلى الإصفرار ولكنني لم أتخيل في حينها أنك ستقعين ، لم أتخيل أن رياح الخريف ستحملك بعيدا ًعني وأبقى وحدي أجرُّ أذيال الخريف .
لم أيأس منك ولم أكلّ أو أمل ّ من بثك حبي ولم تفتر مشاعري يوما ً ولكن قلبك كان موصدا ً.
اليوم وفي هذا الجو الخانق أرسلتُ إليك أنفاسي على أمل أن تحضنيها ، تضميها إلى صدرك كما كنت تفعلين حين كانت تنتابك نوبات العشق المجنونة التي سحرتني بك وأفقدتني لبي وصرت أسير خلفك كالتائه وأنت أنت بوصلتي .
لكنها عادت إليّ خائبة الرجاء باردة الأوصال
حين ركضَت ْ خلف إثرك فلم تجدك .
أعلم أنك محاصرة مثلي وأعلم أن الحنين يقفز بين ضلوعك ولواعج الفراق تدمي فؤادك وأنك في ظل هذا الحصار لن تقوي على بثي أنفاسك الملتهبة ولكني الآن احتاج إجابة ، إلى متى سأبقى أذوب كالشمعة في حبك ؟ إلى متى ؟ أرجوك اخترقي الحصار واكتبي لي ، أرسلي لي بضع حروف مبعثرة وأنا ألملمها في كفي ، أرويها بدمعي ، أدثرها بأنفاسي وأسكنها حجرات قلبي الموصدة في وجه كل أنواع الحصار .
رد الرسالة
من قال إني لم أحاول خرق الحصار ؟ من قال إني لم أحاول بثك أنفاسي المتعبة والتائهة في أفق هذا الحصار الضبابي ؟
لكنهم حاصروا أنفاسي وصادروا حروفي وأبقوني في خانة الممنوع من الصرف .
في كل ليلة أحمل شمعة حزينة وأذرع بها تلك الطرقات التي كانت تجمعنا ، أجوبها مرارا ً ، أبحث فيها عن خيال لك منسي على أحد الجدران ، أفتش فيها عن ظل خطوات لك تأخرت في عودتها ذات مساء ، أقود شمعة هزيلة تدلني على شرفة نافذة أتلصص منها بريق عينيك وبحة همسك ومن ثم أعود أدراجي كل ليلة خالية الوفاض إلا من شمعة ذاب عمرها وهي ترافقني في اقتفاء أثرك .
لم أجد أمامي سوى أيلول .. ألم نطفيء شموع أيلول بالأمس ونودعه حتى الباب ؟ كيف عاد ؟ لماذا عاد أيلول سريعا ً هذا العام ؟
سألت حكيمة البلدة : ولماذا أيلول بالذات ؟ قالت : هي مشيئة ال
له .
له .
قلت : ولكن ألا يجوز أن يأتي أيلول عاما ً ويغيب أعواما ً ؟
ضحكت بخبث وقالت : أيلول يأتي مرة كل عام.
ولكنه أتى هذا العام مرتين ! مرتين أتى هذا العام .
بالأمس كنت أستلقي في حضن القمر تداعبني أنواره ، يناجيني طيفك ويطول بي السهر، لكنهم اليوم صلبوا القمر خلف الجدار وأطبقوا على أنواره فكي َّ الحصار، وضوء الشمعة يخيفني في ظلمة الليل ويخيل إلي أن طيفك الملائكي شبح طويل يلاحق ذيل ليلي يبرز لي أنيابه وعيناه يقدح منها الشرر .. وأحاول أن أفرّ من قبضته .. لا .. لم أخدع أحدا ً .. كثيرة الشك أنا ، نعم ولكني لم أخدعك ، لم أرسل حروفي ، نعم ولكني لم أخدعك
هو الحصار .. هو الحصار .. أنا وأنت وهذا القمر الحزين
نرزح تحت نير الحصار .
ميساء البشبتي