حسين سرمك حسن
في الاول من أيار(مايو) تحلُّ الذكرى الثانية والثمانون لميلاد شيخ بغداد، أستاذ المستشرقين، المجتهد بلا عمامة الدكتور حسين علي محفوظ.
ولعلّ من المفارقات الصارخة أنْ نحتفي بعيد ميلاد إنسان ما في العـراق الـذي حوّل الاحتلال الأمريكي البغيض حياة شعبه إلى احتفال مديد بالموت والخراب، صارت الناس، في ظل الديمقراطية الأمريكية المسلّحة تتأسف على ميلاد طفل ببغداد.. إذ ما الذي سيراه، وأي مصير مشؤوم سيكتب له، لكن علينا أن نطرق على حديد المحنة عند هذه النقطة.. أن نصر على الحياة والنماء والديمومة في بغداد المحروسة وخصوصاً في مجال الثقافة. الثقافة الآن هي خط الدفاع الأخير للعراقيين… فقط (السيّاب ونازك والبيّاتي والجواهري) مثلا لا نسأل عن انتماءاتهم المذهبية… وحين ندخل معرضاً تشكيلياً (لمحمد مهر الدين) أو (شداد عبد القهار، أو سميرة عبد الوهاب) مثلاً لا نتساءل عن مذهب اللون وطائفته.
يحاول الغزاة إقناعنا بأن العراق يطفو على بحيرة من الذهب الأسود لإشغالنا عن حقيقة أن العراق يطفو على بحيرة من ذهب العقول المصفى. يشغلوننا بتصفية الذهب الأسود في حين ينشغلون هم بتصفية ذهب العقول قتلاً وتهجيراً وإهمالاً، ومن ذهب العقول بل لؤلؤة العقل العراقي المبدع الجبّار هو العلاّمة الشيخ حسين علي محفوظ الذي نحتفي هذه الأيام بعيد ميلاده الثاني والثمانين. وقد سرت، ومنذ احتلال بغداد المحروسة بالله على تقليد الاحتفاء بالمبدعين العراقيين أحياءً وأموات. وأقول ابتداءً إن هناك شعوباً تحسدنا على وجود علاّمة عظيم مثل حسين علي محفوظ الذي تمسّك بتراب حبيبته بغداد في حين (هجّ) المثقفون العراقيون إلى الخارج زرافات ووحداناً.
لمحفوظ ألقابٌ كثيرة، لكنه يفضل لقب (عاشق بغداد)، وما أن يذكر اسم بغداد حتى تسيل دموع هذا العاشق التي وصفها أحد الكتّاب بأن دموع محفوظ تكفي لتطهير العالمين جميعاً.
لقد وصفته مجموعة من المؤرخين الأجانب بأنه (موسوعة بقدمين) أو (موسوعة تمشي على قدمين).
يكفي أن نقول إنّ محفوظ قد وضع كتاباً هاماً قبل سنين هو (الوفاق بين المذاهب) أثبت فيه إحصائياً – وهو المولع بالإحصاء – أن الخلافات بين المذاهب المختلفة -.. إلخ هو (6%) وأكرر (6%) فقط في حين أن الاتفاق بينها هو (94)%. انظر كيف جعل الاحتلال العراقيين يتقاتلون على (6%) فقط وينسون اتفاقهم على (94)%، أليس الآن الوقت المناسب لإصدار هذا الكتاب بطبعة شعبية (وأعتقد أن مؤسسة الزمان وراعيها الأستاذ سعد البزّاز مؤهلان لذلك فهما الوحيدان اللذان احتفلا بعيد ميلاد هذا العلاّمة هذا العام من خلال قناة الشرقية).
عندما كان الدكتور صفاء خلوصي يدّرس في إحدى جامعات لندن طرق عليه الباب ذات صبح وحين فتحه وجد شخصاً بزي احتفال رسمي يحمل باقة ورد سلّمها له وهو يقول هذه باقة ورد من أعلى رمز في بريطانيا بمناسبة عيد ميلادكم.
تصور مقدار صدمة الدكتور خلوصي الذي أنسته الغربة يوم ميلاده، وفي موسكو ذهب أحد الباحثين العراقيين إلى المتحف لتصوير وثائق فوجده مغلقاً وكان لا يستطيع الانتظار وحين قال لهم إنه من جانب الدكتور حسين علي محفوظ فتحوا أبواب المتحف وقالوا له: خذ ما تشاء. محفوظ مقدّر ومقيّم في موسكو أكثر من بغداد.. فيا للمفارقة المميتة.. وإلى أين تسير بنا قافلة هذه الثقافة العراقية – وهي القطة التي تأكل أبناءها – تصوروا أن الشيخ محفوظ لقب في موسكو أثناء تدريسه في جامعة لينينغراد بـ”أستاذ المستشرقين” وهو عضو في مجامع علمية كثيرة منها المصري والهندي، ولكن المجمع العلمي الوحيد الذي لم يمنحه عضويته هو المجمع العلمي العراقي.
أستاذ الأجيال هذا، علاّمة العراق والأمّة الإسلامية، الشيخ العابد الزاهد، عراقي الوجه واليد واللسان.. اتصل به الصحفي “سلاّم الشمّاع” قبل أيام ليهنئه بعيد ميلاده وسأله: كيف حالك الآن؟ فأجابه نصاً: أعيش الوحشة والوحدة والفقر.. وأعيش في الخريف القادم”.. آهٍ يا أمة ضحكت من جهلها الأمم.. يا شيخنا.. في عيد ميلادك الحزين.. أحييك وكل عام والعراق العظيم وبغداد المحروسة ومحفوظ عاشقهما بحزن وخير
(الف ياء)